بسم اللّٰه الرحمن الرحيم، والحمد لِلّٰهِ رب العالمين، خالق الأكوان، ومبدع الإنسان، والهادي من يحب طريق الجنان
والصلاة والسلام علي سيد ولد عدنان، حبيب قلوبنا محمد النبي المختار، وعلى آله وأصحابه الأخيار، ومن تبعهم وسار على هديهم إلى يوم المعاد. وبعد، فقد قال اللّٰه عز وجل في محكم كتابه الكريم: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا اللّٰه عليه)
إي وربي، إن في المؤمنين صفوة مختارة ثبتوا على الحق، وأخلصوا له، وتفانوا في خدمته، وسخروا أجسامهم وأرواحهم وأموالهم، وكل طاقاتهم ومواهبهم في سبيل اللّٰه تعالى، ونصرة دينه، وخدمة أمتهم، وتبني قضاياها. عاشوا ليلهم ونهارهم، وصيفهم وشتاءهم لِلّٰهِ تعالى، ليس لهم غرض إلا خدمة هذا الدين الذي اختاره اللّٰه تعالى لهم، واصطفاه لرعاية مصالحهم، وخدمة أوطانهم ومواطنيهم
هؤلاء الصفوة المختارة من المؤمنين – ولِلّٰهِ الحمد والمنة – موجودون في عالمنا الإسلامي، وسيظلون إن شاء اللّٰه تعالى حراساً أمناء أوفياء لهذا الدين وأهله، ولا يكلون ولا يملون، ينشرون الخير، ويطلبون الأجر من رب العالمين
وإذا قلنا: إن فقيد هذه الأمة عامة، والأتراك خاصة، الشيخ الرباني الجليل، محمود أفندي النقشبندي، في طليعة هؤلاء الأوفياء، لا نكون مبالغين، ولا مفتئتين على الحقيقة
فهذا الرجل العظيم، العالم الرباني المجاهد بنفسه وجاهه وعلمه وماله، هو رجل الحقيقة والواقع، الذي تولاه ربه عز وجل منذ نشأته برعايته، فأكرمه بأبوين صالحين، كان لفطرتهما الصالحة أثر كبير في تصفية فطرته وتنميتها، وإذا أراد اللّٰه بعبد خيرا هيَّأ له أسبابه
فالشيخ محمود أفندي رحمه اللّٰه تعالى حفظ القرآن صغيرا، وأولع في طلب العلم، وهو حديث السن، وصحب الأخيار من العلماء فأتقن اللغة العربية ونحوها وآدابها، وبرع في علوم الشريعة وفنونها، فدرس وتعمق في التفسير وعلوم القرآن، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، إضافة إلى علم العقيدة وأركانها، والأخلاق وفضائلها، وحسن السلوك، وأدب التعامل مع الناس
وعرك الدنيا، وفقه خصائصها، وأتقن فن التعامل معها، جندياً في الجيش، وإماماً في المحراب، ومعلماً للنساء والرجال، والكبار والصغار، والأتراك وغيرهم
لقد أكرمني اللّٰه تعالى بزيارته قبل وفاته بأيام معدودة، فقد دخلت عليه وحيداً، وهو جالس على أريكته، مطرق الرأس مغمض العينين، مشغول بحاله مع ربه، لا يتكلم ولا يتحرك، فأخذتني الدهشة والرهبة، وغمرتني الهيبة لجلاله ووقاره، وما يتراءى من محياه من معالم الولاية والصلاح، فوقفت أمامه، ودعوت له بما ألهمني اللّٰه عز وجل، ثم قبلت يده، وخرجت محباً له، ومكبرا لمقامه، ولعلي أكبر سناً منه، ولكن لهؤلاء الأولياء تنحني الهامات إجلالا لصلاحهم، وإكراماً لمحبة اللّٰه تعالى لهم
لقد توفاه اللّٰه تعالى بعد أيام من زيارتي له، فحزنت لوفاته، وحزنت الحياة والأحياء لذلك، وبكاه الرجال والنساء والأتراك وغيرهم
وشيعه الشعب أتراكاً وغيرهم، حكاماً وعامة، وشهد جنازته الملايين من الأصحاب والأحباب، والطلاب، حتى إن رئيس البلاد السيد رجب طيب أردوغان حفظه اللّٰه تعالى وأطال في عمره، وأمده بعونه، كان مع المشيعين، وشارك في حمل نعشه، وهو مغتبط سعيد، وكأن لسان حاله يقول: ليكن هكذا الحكام والمسؤولون في تعظيم أهل العلم، العاملين في خدمة الأمة ورعاية مصالحها وقيمها العظيمة
لقد سن السيد الرئيس حفظه اللّٰه تعالى سنة طيبة، نطمع أن تنتشر بين المسؤولين، فبصلتهم بشعبهم وتعاونهم معهم تصلح الحياة، ويسعد الأحياء، فبارك اللّٰه بحياتك أيها الرئيس المفدى، وأبقاك ذخرا للعباد والبلاد
بعد هذه المقدمة البسيطة، أعود لأذكر بعضاً من مآثر هذا الشيخ العظيم، مما قرأته عنه، أو أطلعني عليه بعض أحبابه وطلابه العارفين به
همة الشيخ العالية في العلم والتعليم والدعوة إلى اللّٰه عز وجل، قال أحبابه وطلابه: كان من همة الشيخ أن يصلي الصبح إماماً في جامع إسماعيل آغا، ثم يعطي الدروس للطلاب إلى قريب الظهر، ثم يخرج للدعوة، فيمر على البيوت والمحال التجارية يدعوهم إلى اللّٰه ويعلمهم أمور دينهم، ولا يرجع إلى بيته إلا في الليل، وكان هذا أيام شبابه، ولو أدركنا الظروف في ذلك الوقت، لعلمنا كم كان يجاهد ويكافح، ويتوقى المخاطر
2- إخلاصه رحمه اللّٰه تعالى، فقد كان لا يبتغي بعمله إلا وجه اللّٰه تعالى، وكان يحث طلابه على الإخلاص، وتصحيح النية مع اللّٰه تعالى، وحسن التوكل عليه
احترامه للعلماء وتعظيمهم، وقضاء حاجاتهم، ويأمر طلابه أيضاً بتوقير أهل العلم واحترامهم، والاستفادة من علمهم، ولقد رأيت واللّٰهِ بعيني لما زرتهم في جامع إسماعيل آغا كم يعظمون العلماء، ويقبلون عليهم بالتقبيل والترحيب، وكان يوصيهم خاصة باحترام علماء الشام والاستفادة منهم
منهج الشيخ في التعليم، كان رحمه اللّٰه- كما أخبرت- يتدرج مع طلابه في تلقينهم العلم، فيبدأ معهم بمبادئ العلوم الأساسية، ويرتفع بهم شيئاً فشيئاً حتى يستطيعوا المداومة والفهم، من غير ملال ولا سامة، وكان يسير سيرته هذه مع النساء، فيحثهن على طلب العمل وحفظ القرآن
وقد روي عنه أنه كان يقول لطلابه من الذكور والإناث: لو بقي من عمري ثلاثة أنفاس فإني سأقول لكم: اقرؤوا، اقرؤوا، اقرؤوا.. فطلاب العلم كالغيوم المليئة بالأمطار تحيي الأرض القاحلة
وكان يقول للناس: اجعلوا في كل حي مدرسة للذكور، ومدرسة للإناث، وعلى إثر ذلك انتشرت المدارس التي تعلم الإناث والذكور القرآن والفقه والعلوم الشرعية
اهتمام الشيخ رحمه اللّٰه تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن أقواله رحمه اللّٰه تعالى: لو كان في كل بيت في اسطنبول مدرسة، ولا يوجد أمر بالمعروف ونهي عن المنكر فلا فائدة من تلك المدارس، وما أكثر ما كان يحذر من ترك هذا الواجب وبيان أخطاره
اعتصام الشيخ رحمه اللّٰه تعالى بالسنة النبوية، فما كان يطيق أن يرى أي سلوك مهما دق مخالفاً للسنة النبوية، فما كان تصوفه إلا مرآة للقرآن الكريم والسنة النبوية، وكان يقول: طريقنا هذا كتاب وسنة، ويقول رحمه اللّٰه تعالى: إذا رأيتموني أترك ثلاث سنن من سنن المصطفى صلى اللّٰه عليه وسلم فلا تصلوا خلفي
ومما يروى عنه قوله: أبو جهل أخرج النبي صلى اللّٰه عليه وسلم من مكة، فلا تكونوا مثله فتخرجوا رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم من قلوبكم
منهجه في التربية، لقد كان يعتني بتوجيه طلابه لإصلاح قلوبهم، والبعد عن الغفلة والعجب، والاستخفاف بالناس، ويقرأ عليهم قول البصيري:
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح، فاتَّهم
الشيخ والسياسة، كان رحمه اللّٰه تعالى لا يحب أن يخوض هو وطلابه بالسياسة، ولا يسعى للاستفادة منها، ويرى السياسيين كثيراً ما يجنحون نحو مصالحهم، ويحيدون عن الدروب التي تخدم أمتهم، وكان يقول: ينبغي أن نخرج حب الرئاسة من قلوبنا، ولا يعني هذا أنه كان يقصر هو وأتباعه وطلابه في مناصرة أهل الحق، ومعاونتهم في تحقيق مصالح الأمة
محبة العلماء للشيخ رحمه اللّٰه تعالى وأسكنه فسيح جناته، إنه كنتيجة لعكوف الشيخ على العلم والدعوة، والإخلاص في سلوكه سنوات طويلة مليئة بالجد والعمل رغم المصاعب والمتاعب، فقد ذاع صيته في مشارق الأرض ومغاربها، وذكره العلماء وغيرهم بكل إجلال واحترام، مع بعده رحمه اللّٰه تعالى عن حب الشهرة، فقد سمع يوما أن أحد طلابه افتتح مدرسة شرعية وسماها باسمه، فأرسل إليه الشيخ رحمه اللّٰه تعالى وقال له، متى رأيتموني أدعوكم لشخصي، من أنا حتى تسمي المدرسة باسمي، ثم أمره أن يغير اسمها ويسميها باسم أحد الصحابة رضي اللّٰه عنهم
وبعد فإني أرى أن نكتفي بهذا، فإن مآثر الشيخ أكثر بكثير، رحمه اللّٰه تعالى ورزقنا حبه، ووفقنا لنحقق القدوة به وبالصالحين من أمثاله، وصلى اللّٰه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
العبد الفقير إلى اللّٰه تعالى
الشيخ علي خالد الشربجي الداراني الدمشقي